المقالات
الاستنباط من القرآن
إن موضوع الاستنباط من القرآن من الموضوعات المهمة التي يحسن بالمتخصصين العناية بها، وقد قُدِّمت في كـلية أصول الدين رسالة في هذا الموضوع، قدمها الأخ الفاضل فـهد الوهبي، وهي بإشراف الأسـتاذ الكبير الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع - حفظه الله -، وإني إذ أقدِّم هذا الموضوع، فإني سأقسم الحديث فيه إلى وحدات، فأبدأ أولاً بمفهوم التفسير؛ لأنه الأساس الذي يبنى عليه الاستنباط والفوائد المرتبة على الآيات، ثُمَّ أتابع ما بعده من الموضوعات.
أولاً: مفهوم التفسير:
التفسير: بيان معاني القرآن الكريم.
وما كان فيه بيان للمعنى، فهو من التفسير، وما لم يكن فيه بيان للمعنى فهو خارج عن حدِّ التفسير.
ويدخل في التفسير أي معلومة يكون فيها بيان للمعنى، سواءً أكانت سبب نزول، أو غريب لفظة، أو قصة لا يتبين معنى الآية إلا بها، أو أثر نبوي في تفسير آية، أو آية مفسرة لآية، أو غير ذلك مما لا يفهم المعنى إلا به.
أما إذا فُهِمَ المعنى وبان بأحد هذه الأمور أو ببعضها معنى، فإن ما بعده من المعلومات لا يكون من صلب التفسير، وإن كان له علاقة بالآية من جهة أخرى، فهو يكون من علوم الآية، كما أن تفسير الآية من علومها.
والذي قد يُلبِسَ على هذا صنيع بعض العلماء المتأخرين الذين أدخلوا في كتبهم ما ليس من التفسير، وحشوها بكثير مما عرفوه من معارف في علومٍ شتَّى، فالفقيه ينحو بكتابه نحو علم الفقه - كالقرطبي - والبلاغي ينحو بكتابه نحو علم البلاغة - كالزمخشري - والنحوي ينحو بكتابه نحو علم النحو - كأبي حيان - والمتفنن في بعض العلوم يحشوا كتابه بما لديه من معلومات هذه العلوم - كالرازي -... الخ.
وهؤلاء قد رسموا لأنفسهم هذا المنهج في كتبهم، ولا يعني هذا أن كل ما قالوه فإنه من علم التفسير، لذا لا يصحُّ الاحتجاج بمناهجهم في التأليف على تحرير المراد بالتفسير؛ لأنهم - بلا خلاف - قد توسعوا في عرض المعلومات، وزادوا عن حدِّ التفسير، واستدرك بعضهم على بعض في إدخال هذه المعلومات في كتبهم التي هي في التفسير، بل قد يقع بعضهم فيما استدركه على الآخرين، فيذكر ما يزيد عن حدَّ التفسير.
وإذا رجعت إلى ما رُوي عن السلف الكرام (الصحابة والتابعين وأتباعهم) واستقرأته، فإنك ستجده في أغلبه يُعنى ببيان المعاني المرادة بالتنْزيل، ولا تجد كثرة الاستطرادات التي ظهرت عند المتأخرين من علماء التفسير.
وهذا أصل تنطلق منه لتحديد مفهوم التفسير، فضلاً عن الأصل اللغوي للكلمة، وهو مأخوذ من مادة (فسر) التي تدل على كشف وإيضاح وبيان.
ثانيًا: الاستنباط:
الاستنباط استخراج ما كان خفيًّا، ليظهر للعيان، ومنه استنباط الماء؛ أي: إخراجه من باطن الأرض.
والاستنباط خلاف التفسير، وبينهما مغايرة ظاهرة، لكن قد تخفى هذه المغاير بسبب وجود الاستنباطات في كتب المفسرين، وبسبب قرب بعض الاستنباطات من الذهن، فيحسبها الناظر لها من التفسير، والحقيقة أنها مما يأتي بعد التفسير، فالتفسير شيء، والاستنباط شيء آخر.
وقد أشار السيوطي (ت:911هـ) إلى هذا في مؤلفه الممتع النفيس (الإكليل في استنباط التنْزيل 1/ 282) (تحقيق: د/ عامر العربي)، فقال: "... فعزمت على وضع كتاب في ذلك، مهذب المقاصد، محرر المسالك، أُورِد فيه كل ما يستنبط منه، أو استدل عليه به على مسألة فقهية أو أصلية أو اعتقادية، وبعضًا مما سوى ذلك، مقرونًا بتفسير الآية حيث توقف فهم الاستنباط عليه، معزوًّا إلى قائله من الصحابة والتابعين، مخرجًا منن كتاب ناقله من الأئمة المعتبرين....".
فتراه هنا فرَّق بين الاستنباط والتفسير، وجعل الاستنباط قد يتوقف على التفسير، وهذا صحيح؛ لأنَّ الاستنباط قد يكون من نصٍّ ظاهرٍ يغني تنْزيله عن تأويله، وقد يكون من نصٍّ يحتاج إلى تفسير، فلا يكون الاستنباط إلا بعد فهم المعنى.
ولا أحسب أن من تأمل الفرق بين التفسير والاستنباط يخفى عليه ما بينهما من التغاير في المادة العلمية، لكن لا يُفهم هنا أن الاستنباط غير مراد في كتب التفسير؛ كلاَّ، لكن الأمر هنا بيان مصطلحات، وذكر فروق بين متشابهات.
ثالثًا: صور الاستنباط:
سبقت الإشارة إلى أنَّ الاستنباط قد يكون من ظاهر تُغني تلاوته عن تفسيره لأنه لا حاجة له إلى أن يُفسَّر لظهوره ووضوحه، وأنَّه قد يكون الاستنباط من كلام يحتاج إلى تفسير، ثمَّ يأتي الاستنباط بعد ذلك.
وفي كلا الأمرين، فإنَّ أول ما يُنظر فيه في الأمر المستنبَطِ، والفائدة المعلَّقة بالآية؛ ينظر في صحة الفائدة أو الأمر المستنبط في ذاته، هل هو صحيح معتبر في الشرع، أو لا؟
فإذا كان المعنى المستنبط صحيحًا في ذاته، لا يخالف الشريعة، فإنه ينظر بعدَ ذلك إلى صحة ارتباطه بالآية، وصحة دلالتها عليه، إذ ليس كل استنباط مذكور أو فوائد مرتبة على الآيات يكون صحيحًا من جهة دلالة الآية عليه.
أما ما يكون الاستنباط فيه بعد فهم المعنى (أي: التفسير) فإنه يزيد أمرًا، وهو صحةُ التفسير؛ لأنَّ التفسير إذا كان خطًا أو باطلاً، فإن ما يُستنبط منه، وما يرتب عليه من الفوائد سيكون خطًا محضًا، أو باطلاً صرفًا، على حسب التفسير المذكور.
ويمكن القول إن ضوابط الاستنباط الصحيح:
(1) أن يكون المعنى المستنَبطُ صحيحًا في ذاته، فلا يخالف أمرًا مقررًا في الشريعة؛ لأنه سيعتبر مردودًا.
(2) أن تكون الدلالة عليه صحيحة معتبرة، سواءً أكانت الدلالة على الوجه المستنبط ظاهرة، أم كانت خفية، ويدخل فيها أي نوع من أنواع الدلالات المعروفة عند الأصوليين؛ كدلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء وغيرها من الدلالات التي تستخدم في الاستنباط.
(3) أن يكون التفسير المستنبط منه صحيحًا، فإن كان ضعيفًا أو باطلاً، فإن نتيجة الاستنباط ستنعكس عليه، وما بُني على باطل، فهو باطل.
رابعًا: أمثلة من الاستنباطات من كتاب (الإكليل في استنباط التنْزيل، للسيوطي).
(1) ذكر السيوطي (1/ 295) عن الكرماني في قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22]، قال: "واستدل أكثر المفسرين بالآية على أن شكل الأرض بسيطة، وليس بكروي"([1]).
وهذا الاستنباط فيه نظر؛ لأنَّ المعلومة المستنبطة بذاتها فيها خطأ، مع التحفظ أيضًا على قوله: "أكثر المفسرين".
(2) قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]، قال السيوطي (1/ 302): "في العجائب للكرماني (1: 303): استدلَّ بها بعض من يقول بالتناسخ، وقال: إن القوم كانوا هم بأعيانهم، فلما تطاولت مدة التلاشي والبِلَى نسوا، فذُكِّرُوا. قال (أي: الكرماني): وهذا محال، وجهل بكلام العرب، فإن العرب تخاطب بمثل هذا، وتعني الجدَّ الأعلى، والأب الأبعد".
وهذا الاستنباط خطأ محض؛ لأن المعلومة المستنبطة باطلة بذاتها، فالقول بالتناسخ باطل بذاته، وربطه بالقرآن باطل أيضًا.
(3) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} [البقرة: 29]، قال السيوطي (1/ 296): "استدل به على أن الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما ورد الشرع بتحريمه".
(4) قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، قال السيوطي (ت: 911هـ): "استدل به على أن اللغات توقيفية، ووجْهُه: أن الله تعالى ذمَّهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمـية غيرها من الله توقيف؛ لما صحَّ هذا الذمُّ؛ لكون الكلِّ اصطلاحًا منهم"([2]).
وهذا الاستدلال ضعيف، وقد نبَّه المحقق الدكتور عامر العربي على هذا الضعف، فقال: "لأن الذم غير منصب على مجرد التسمية، وإنما على تسمية الأصنام آلهة، ونفهم من هذا أن التسمية إذا خلت مما يتعارض مع الشرع تكون جائزة".
وفي هذا المثال تجد أن المسألة المستدل لها، وهي (توقيف اللغات) مختلف فيها، وهذه من صور الاستنباطات التي يقع التنازع في صحة أصلها، وهي راجعة إلى الاجتهاد، وليست كما في سابقاتها مما دلَّ الشرع على بطلانه، والله أعلم.
(5) قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، قال السيوطي (ت: 911هـ): "استدل به على حجية القياس، وأنه فرض كفاية على المجتهدين؛ لأن الاعتبار قياس الشيء بالشيء"([3]).
(6) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، قال السيوطي: "قال مالك: من كان له في أحد من الصحابة قول سَيِّئٌ أو بغض، فلا حظَّ له في الفيء"([4]).
(7) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]، قال السيوطي: "أباح الانتشار عقب الصلاة، فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها"([5]).
(8) قـوله تـعـالـى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، قال السيوطي: "فيها: أنه لا بأس بإسرار الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها حسن العشرة مع الزوجات، والتلطف في العتب، والإعراض عن استقصاء الذنب"([6]).
(9) قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، قال السيوطي: "واستدل به الشافعي على صحة أنكحة الكفار"([7]).
(10) قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالِ إنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي وَمَنْ لم يَطْعَمْهُ فَإنِّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً..}[البقرة: 249]، قال بعضهم: "هذه الآية مثل ضربَه الله للدُّنيا، فشبَّهها الله بالنهر، والشَّاربِ منه بالمائلِ إليها المستكثرِ منها، والتَّاركِ لشربِهِ بالمنحرفِ عنها والزاهدِ فيها، والمغترفِ بيدِه بالآخذِ منها قدرَ الحاجةِ، وأحوالٌ الثَّلاثةِ عندَ اللهِ مختلفةٌ"([8]).
قال القُرْطُبِيُّ (ت: 671هـ): "ما أحسن هذا الكلام لولا ما فيه من التَّحريفِ في التَّأويلِ، والخروجِ عن الظَّاهرِ، ولكن معناه صحيحٌ في غير هذا".
وهذا من النوع الذي تكون الفائدة المستنبطة صحيحة في ذاتها، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح.
وهذا غيض من فيض من الاستدلالات والاستنباطات والفوائد المعتبرات، وإنما ذكرته تذكرة ومثالاً يُحتذى، وأسأل الله لي ولكم التوفيق.