المقالات
مصطلحات كتب الوقف والابتداء
قال السائل:
هل من كتاب في أحكام الوقف والابتداء مُيسر وسهل حيث إنَّ كتاب الأشموني فيه شيء من الصعوبة؟
الجواب:
إنَّ معرفة هذه الكتب تحتاج إلى معرفة المصطلحات التي اعتمدتها، وغالب هذه الكتب اعتمدت مصطلح التام والكافي والحسن والقبيح، فمعرفة هذه المصطلحات، والاجتهاد في دراسة تطبيقاتها تجعل هذا العلم سهلاً شيئًا فشيئًا.
ومما يحسن علمه في هذا العلم أنَّه يقوم على ثلاثة علوم، هي: التفسير، والقراءات، والنحو.
والجامع بين هذه العلوم هو معرفة المعنى (أي: التفسير)، فالإعراب فرع المعنى، والقراءة إما أن تكون مرتبطة بالإعراب، فهي تعود في النهاية إلى المعنى، وإما أن تعود إلى دلالة المفردة، والحاجة إلى هذا النوع من القراءات في هذا العلم قليل.
لكن كثيرًا من المواقف لا يمكن أن تُفهم بدون معرفة النحو، وإن كان كما قيل إنه فرع المعنى.
علة هذه المصطلحات:
جعل علماء الوقف الذين قسَّموا الوقف إلى تامٍّ وكافٍ وحسنٍ وقبيحٍ، جعلوا اللفظ والمعنى عمدةً في التفريق بين هذه المصطلحات، وذكر بعضهم علة هذا التقسيم، ومنهم ابن الجزري، حيث قال: "وأقرب ما قلته في ضبطه: أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري؛ لأنَّ الكلام، إمَّا أن يتمَّ، أو لا؛ فإن تمَّ كان اختياريًا. وكونه تامَّا لا يخلو: إمَّا أن لا يكون له تعلق بما بعده البتة -أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى- فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بالتامِّ، لتمامه المطلق، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده.
وإن كان له تعلق، فلا يخلو هذا التعلق، إما أن يكون من جهة المعنى فقط، وهو الوقف المصطلح عليه بالكافي، للاكتفاء به عما بعده، واستغناء ما بعده عنه، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده.
وإن كان التعلق من جهة اللفظ، فهو الوقف المصطلح عليه بالحسن؛ لأنه في نفسه حسن مفيد، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده، للتعلق اللفظي.. وإن لم يتمَّ الكلام كان الوقف عليه اضطراريًا، وهو المصطلح عليه بالقبيح، لا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة: من انقطاع نفس ونحوه، لعدم الفائدة، أو لفساد المعنى"(1]).
وهذا السبر والتقسيم الذي ذكره ابن الجزري واضح الدلالة على صحة هذا التقسيم وعلله. غير أنه يبقى أن ابن الجزري وغيره ممن تقدمه لم يوضحوا المراد باللفظ والمعنى توضيحًا جليًا.
ويحتاج القارئ في كتب الوقف والابتداء التي تعتمد هذه المصطلحات أن يعرف مرادهم باللفظ والمعنى عنده.
وقد بين بعضُ العلماء المتأخرين المراد بالتعلق اللفظي، وقالوا: "بأنه ما يكون ما بعده متعلقًا بما قبله من جهة الإعراب، كأن يكون صفة، أو معطوفًا، أو غيرها من التوابع النحوية"(2]).
وما نصَّ عليه هؤلاء ظاهر من استقراء كتب الوقف، خاصة عند ذكر (ما لا يوقف عليه)، حيث يعتمدون على الإعراب، ومن ذلك ما ذكره ابن الأنباري تحت باب (ما لا يتم الوقف عليه)، حيث قال: "واعلم أنه لا يتمُّ الوقف على المضاف دون ما أضيف إليه، ولا على المنعوت دون النعت، ولا على الرافع دون المرفوع، ولا على المرفوع دون الرافع، ولا على الناصب دون المنصوب، وعلى المنصوب دون الناصب، ولا على المؤكد دون التأكيد"(3]).
ومن أمثلة اعتـماد الرابط النحوي في الحـكم، مـا ذكره النـحاس عند قـوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، قال: "إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، حيث قال: ليس بتام ولا كاف؛ لأن إله واحدًا منصوب على الحال، أو على البدل من الأول، فلا يجوز الوقف على ما دونه، والتمام {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}"(4]).
ومن ذلك ما ذكره الداني في أسباب قبح الوقف، ومثل له بالرابط اللفظي؛ كالوقف على {بِسْمِ} من {بِسْمِ اللَّهِ} [الفاتحة: 1]، والوقف على: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمران: 181]، والابتداء بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وغيرها(5]).
وبهذا يظهر أن المراد بالتعلق اللفظي التأثير الإعرابي. ولهذا قد يقع اختلاف في تحديد الوقف ونوعه بسبب الاختلاف في الحكم الإعرابي؛ كأن يختلف في (الواو) بين أن تكون استئنافية أو حالية. فعلى الأولى ينعدم التأثير، وعلى الثانية يكون التأثير الإعرابي موجودًا.
أما المعنى، فيظهر أنَّه نوعان:
- الأول: المعنى المرتبط بالجملة القصيرة، فإذا رأوا أنه قد تم كلامٌ وانتقل بعده إلى غيره، فإنه تام، وإن كان السياق والحديث لا زال في موضوعٍ معين.
- الثاني: المعنى المرتبط بالقصة أو جملة الآيات التي تتحدث في موضوع واحدٍ، وهذه يقع فيها التمام.
وبسبب النوع الأول يصعب تحديد المراد بالمعنى عند علماء الوقف والابتداء؛ لأنهم لم يبينوا مرادهم به، ولذا تجدهم يختلفون في الحكم على الموضع: تمامًا وكفايةً، نظرًا لاختلافهم في المعنى، قال محمود علي بسة: "ثم إنَّ الفرق بين الوقف التام والكافي غير محدد تحديدًا منضبطًا عند جميع القراء، كالفرق بين الحسن والقبيح؛ لأن وجه الاختلاف بين التامِّ والكافي تعلقه بما بعده بالمعنى، أو لا، وهو أمر نسبي يرجع فيه إلى الأذواق في فهم المعاني واعتبار ما وقف عليه متعلقًا بما بعده في المعنى، أو مستغنيًا عنه. ولذا تجد منهم من يعدُّ بعض الوقوف الكافية في نظر غيره تامة، والعكس"(6]).
ومع هذا الوضوح الفرق بين التعلق اللفظي والتعلق المعنوي، تجد من يجعل شيئًا مما به تعلق لفظي من قسم الكافي الذي يكون التعلق فيه بالمعنى، وهذا يدلُّك على عدم وضوح المراد بالمعنى.
ومن الأمثلة التي وقع فيها الحكم بالتعلق بالمعنى، وفيه تعلق لفظي، ما ذكره الداني في تمثيله للوقف الكافي، قال: "وذلك نحو الوقف على قـوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، والابتداء بما بعد ذلك في الآيةِ كلها"(7]).
وقد انتُقد الداني في تمثيله للوقف الكافي، ومن ذلك ما قاله السخاوي في جمال القراء: "وهذا ليس بالوقف الكافي؛ لأن هذه المواقف يتعلق ما بعدها بما قبلها في اللفظ والمعنى، وإنما هي من الأوقاف الحسان"(8]).
وقال ملا علي قاري في تعليقه على تمثيل ابنِ الجزري بهذا المثالِ: "وفيه أنَّ الظاهر أنَّ ما بين المعطوف والمعطوف عليه تعلق لفظي، فهو من قبيل الوقف الحسن(9]).
وما ذكره السخاوي وملَّا علي قاري هو الصواب؛ لأن العطف رابط لفظي إعرابي، ثم إنَّ البدء بقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] لا يفيد معنى مستقلاً؛ لأنه متعلق بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: 23].
وإنما يجوز البدء بأحد هذه المعطوفات للضرورة، وهي كثرة المعطوفات مع طول الآية، وعدم بلوغ النفَسِ نهايتها إلاَّ بتقطيعها. وقد نبَّه ابن الجزري أن مثل هذا الطول مما يتسامح الوقف فيه وإن كان من الوقف الحسن، قال: "يغتفر في طول الفواصل والقصص والجمل المعترضة ونحو ذلك، وفي حالة جمع القراءات، وقراءة التحقيق والترتيل، ما لا يُغتفر في غير ذلك، فربما أُجيز الوقف والابتداء لبعض ما ذكر، ولو كان لغير ذلك لم يُبَحْ، وهذا الذي يسميه السجاوندي: المرخص ضرورة"(10]).
ولما كان (المعنى) في النوع الأول غير محدد تحديدا دقيقًا، فإنك تجد كثيرًا مما حُكِيَ فيه التمام بينه وبين ما بعده علاقة في المعنى تمنع أن يكون من قسم التامِّ.
ومن أمثـلة ذلك: حكمـهم بالتمـام على قـوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34]، قـال ملاَّ علي قـاري: "وقـد يوجـد قبـل انقـضاء الفـاصلة؛ كقـوله تـعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34]، قال ابن المصنف: هذا الوقف تامٌّ؛ لأنه انقضاء كلام بلقيس، وهو رأس آيةٍ" ا.هـ. يعني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } [النمل: 34] ابتداء كلام من الله شهادة على ما ذَكَرَتْهُ.
وفيه أنَّ له تعلقًا معنويًا، فلا يكون وقفه تامًا، بل كافيًا.
وقال بعض المفسرين: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أيضًا من كلامها تأكيدًا لما قبلها، فالوقف على {أَذِلَّةً} كافٍ، وعلى {يَفْعَلُونَ} تامٌّ".
وقد يقال: لأنه كافٍ أيضًا؛ لأن ما بعده من جملة مقولها، فله تعلق معنوي بما قبله.
ثمَّ قال -أي: ابن المصنف-: "وقد يوجد بعد انقضاء الفاصلة بكلمة؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137-138]؛ لأنه معطوف على المعنى؛ أي: في الصبح والليل؛ يعني: فيهما). وفيه البحث السابق؛ إذ من جملة التعلق المعنوي قوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 138]، فهو وقف تامٌّ، وما قبله كافٍ"(11]).
ومن هذه النقول السابقة يتضح أن المراد بالمعنى غير واضح المعالم، وليس له تعريف محدد، مما يجعله عائمًا غير منضبط، وبسبب ذلك يقع الخلاف في الحكم على بعض المواطن بالتمام أو الكفاية.
ولو تأملت كثيرًا من أمثلة التامِّ لوجدت فيها رابطًا لفظيًا غير إعرابيٍّ، وهي كثيرةٌ، ومن أمثـلة ذلك قـوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]، حكم ابن الأنباري والداني بالوقف التامِّ على قوله: {وَاشْكُرُوا لَهُ}(12])، ولو نظرت في قوله تعالى: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لوجدت فيه رابطًا لفظيًا غير إعرابي، وهو الضمير في قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وهو يربط بين الجملتين في المعنى، ويدل على عدم تمام الكلامِ، ولذا فالحكم على مثل هذا يكون بالكفاية، واللهُ أعلمُ.
وإذا عرف طالب علم الوقف والابتداء وأتقنه فإنه سيفهم كثيرًا مما في كتب الوقف والابتداء، ولا يوجد كتاب في الوقف يقال عنه: إنه سهل ما لم يُدرك ما ذكرته لك، والله الموفق.
(2]) انظر: الحواشي الأزهرية (41)، المنح الفكرية (59)، العميد في علم التجويد (184)، وهداية القارئ (375). وهناك روابط غير إعرابية سيأتي التنبيه عليها.
(3]) إيضاح الوقف والابتداء (1: 149 - 166)، وانظر: نظام الأداء (22)، وجمال القراء (2: 554 - 562)، ومنار الهدى (17)، والمنح الفكرية (60).
(7]) المكتفى (143)، وانظر الأمثلة الأخرى فهي تشبه هذا المـثال من حيـث تعلقها بالعطف، وقد تابع الدانيَّ من جاء بعده؛ كالطحان في نظام الأداء (ص:39)، والزركشي في البرهان في علوم القرآن (1: 352)، وابنُ ابنِ الجزري في شرحه منظومة أبيه، نقل عنه ذلك ملا علي قاري في المنح الفكرية (ص: 58)، وكذا تابعه خالد الأزهري في حواشيه على الأزهرية على المنظومة الجزرية (ص: 41).