المقالات
المعاني المرتبطة بالآية بين التفسير والاستدلال
إذا أردنا أن نفهم علاقة المعلومات التي يذكرها المفسرون وغيرهم بالآية فالأولى أن ننطلق من فكرة: (علوم الآية)، وسنجد أن التفسير (بيان المعنى) واحد من علوم الآية، وليس هو علوم الآية كلها.
كما سنجد أن من علوم الآية باب الاستدلال واستخراج الفوائد، وباب الاستدلال باب واسع؛ إذ يشمل مجموع الاستشهادات، والاستنباطات، والتنزيل على الواقع، وربط الآية بما يشبهها، وغير ذلك من الروابط التي يمكن استنباطها من النظر في الأمثلة التي كتبها العلماء.
وسأجتهد في هذه المقالة أن أبين الأقوال التي ينطبق عليها مفهوم التفسير، والأقوال التي لا ينطبق عليها مفهوم التفسير، وتكون من باب الاستدلال.
بعد نظر متكرر في هذه الفكرة ظهرت لي هذه النتيجة:
(كل قول ينسجم مع سياق الآية فهو تفسير، وكل قول لا ينسجم مع سياق الآية فلا يكون من باب التفسير، بل يكون من باب آخر من أبواب الاستدلال).
والنظر هنا ليس إلى صحة التفسير من عدمه أو صحة الاستدلال من عدمه، وإنما المراد انطباق مفهوم التفسير أو الاستدلال على الأقوال.
كما أن التفسير قد تتعدد وجوهه وكذلك الاستدلال قد تتعدد مسالكه، وهذا التعدد لا يخرج هذه الأقوال عن كونها تفسيراً أو استدلالاً.
والمقصود بالسياق: ما قبل الجملة المتكلَّم فيها (السباق)، وما بعدها (اللحاق).
وستتضح هذه المقولة بالأمثلة المضروبة.
المثال الأول: في وجوه التفسير المتعددة للآية:
قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس}[التكوير: 15-16]، قيل: هي بقر الوحش أو الظباء، وقيل: هي النجوم أو الكواكب.
وهذه الأقوال كلها تفسير؛ لأننا إذا أبدلنا الأوصاف المذكورة بالتفسيرات المذكورة فإننا نجد أنها منسجمة مع السياق، وليس فيها أي خروج عنه، فإذا اخترنا أن المقسم به بقر الوحش والظباء يكون المعنى: فلا أقسم ببقر الوحش والظباء التي تختفي إذا رأت الإنسان، والتي تجري في المراعي، والتي تأوي إلى بيتها.
وإذا اخترنا أن المقسم به النجوم والكواكب يكون المعنى: فلا أقسم بالنجوم والكواكب التي تتأخر في ظهورها أول الليل، والتي تجري في أفلاكها، والتي تدخل في النهار فتختفي فيه كما يختفي الحيوان في كِناسه (بيته).
وهذان المعنيان من التفسير؛ لأن فيهما بياناً للمعنى.
مثال آخر على الحمل على المعنيين:
في قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥)}[مريم: ٢٤-٢٥]، ذهب جمهور السلف إلى أن المراد بالسري النهر الصغير، وذهب الحسن إلى أن المراد به عيسى عليه السلام على معنى أنه (من سراة القوم).
وهذان التفسيران يحتملهما السياق، فعلى المعنى الأول يكون السياق: فناداها عيسى([1]) ألا تخافي من أحد ولا تحزني على ما أصابك فقد هيأ لك ربك نهراً تشربين منه، ونخلة تأكلين من رطبها.
وعلى المعنى الثاني يكون السياق: فناداها عيسى ألا تخافي من أحد ولا تحزني على ما أصابك فقد جعل ربك تحتك سيداً نبيلاً -يعني نفسه-، فهزي النخلة وكلي واشربي.
وليس المقام هنا مقام بيان سبب الخلاف والترجيح بين الأقوال، وإنما المقام مقام بيان انتساق المعنى المفسَّر به مع نظام الآية.
المثال الثاني: في الاستدلال بالآية:
ورد عن أبي أمامة أنه فسر قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] بأنهم الخوارج([2])، وهذا القول لا يمكن أن يكون من باب التفسير لأن من شرط التفسير -كما ذكرت لك- أن ينسجم القول مع نظم الآية، وهذا القول لا يتحقق فيه ذلك إذا قلنا إن هذا من باب التفسير، إذ سيكون المعنى: وإذ قال موسى لبني إسرائيل لم تلحقون بي الأذى وقد تحققتم أني مرسل من الله إليكم، فلما زاغ "الخوارج" أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الظالمين.
فتأمل كيف يكون السياق مضطرباً قلقاً إذا جعلنا هذا من باب التفسير، إذ ما شأن الخوارج في خطاب موسى لقومه؟!
وأما تفسير الآية فوجهه أن يقال: وإذ قال موسى لبني إسرائيل لم تلحقون بي الأذى وقد تحققتم أني مرسل من الله إليكم، فلما زاغ "بنو إسرائيل" أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الظالمين.
فإن قلت: فكيف نفهم كلام أبي أمامة فالجواب: أن نقول: إن كلام أبي أمامة يتخرج على تنزيل هذا المقطع {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] على حال الخوارج، وأنهم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وليس أنه من باب التفسير.
وأبو أمامة في هذا استخدم أسلوب القياس بين حال بني إسرائيل وحال الخوارج، فحمل هذا المقطع على الخوارج من هذا الباب، وليس من باب التفسير.
ومما ينتبه له هنا:
1- أن صحة الاستدلال تبنى على صحة المعنى.
2- جواز تنزيل جملة من الآية على ما تصلح له، من باب الاستدلال لا من باب التفسير.
3- أن باب الاستدلال أوسع من باب التفسير الذي لا يصح خروجه عن السياق، أما الاستدلال فينظر فيه إلى صحة انطباق الجملة على الحالة المستدل عليها.
المثال الثالث:
يخبر الله في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] عن بني النضير وما حصل منهم وما حصل عليهم بشأن بيوتهم حيث قاموا قبل جلائهم بهدم ما استطاعوا منها، وبأخذ ما قدروا على حمله لئلا يستفيد منه المسلمون، كما أن المسلمين قد هدموا شيئاً من بيوت بني النضير وهم يرونهم نكاية بهم.
وقد ورد عن سهل بن عبدالله التستري (ت:283) قوله: «أي: يخربون قلوبهم ويبطلون أعمالهم باتباعهم البدع وهجرانهم طريقة الاقتداء بالنبيين»([3]).
والآية تخبر عن البيوت المسكونة وعن تخريبها كما سبق ذكره، فجعل سهل مكان البيوت القلوب، وجعل تخريب القلوب بالبدع مكان تخريب البيوت المسكونة.
وعند التأمل سترى أن كلام سهل لا علاقة له بالتفسير، وإنما جعل ما في الآية نظير ما يحصل من أهل البدع لا غير، وهذا وجه من الاستدلال الذي يحصل عند بعض الصوفية عند كلامهم عن الآيات.
ومما ينتبه له هنا:
1- أن سهلاً لو كان قصد التفسير؛ لقلنا إن تفسيره خطأ، لأن ظاهر الآية في البيوت المسكونة، ولم يجر أي ذكر أو إشارة إلى القلوب ولا إلى تخريبها بالبدع.
2- أن الطريق الذي سلكه التستري هو جعل ما في الخارج نظير ما في الآية، وعند التحقق نجد أنه لا علاقة لهذا القول بسياقها، وإنما نظر القائل إلى وجه الشبه بين الحالتين، وهذا الوجه كثير عند المتصوفة، والحكم عليه بالصحة يكون بالرجوع إلى طرق الدلالة، وعدم المعارض الراجح.
وبعض الأمثلة _ كهذا _ إن صح احتماله، فإنه يوجد أمثلة كثيرة لا يمكن احتمالها مثل قول أحدهم: «قوله: {وكتاب مسطور} قال عبدالعزيز المكي: أقسم بالكتاب المنزل عليه، فهو مسطور في اللوح المحفوظ، {في رق منشور} قال: المصاحف، {والبيت المعمور} هو النبي صلى الله عليه وسلم، كان والله بيتاً بالكرامة معموراً، وعند الله مسروراً مشكوراً، {والسقف المرفوع} هو رأس النبي صلى الله عليه وسلم، كان والله سقفاً مرفوعاً في الدارين مشهوراً، وعلى المنابر مذكوراً، {والبحر المسجور} هو قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كان والله بحراً من حب الله مملوءاً، فأقسم الله تعالى بنفس محمد صلى الله عليه وسلم عموماً، وبرأسه خصوصاً، وبقلبه ضياءً ونوراً، وبكتابه حجة على المصاحف مسطوراً، فأقسم الحبيب بالحبيب فلا وراء قسمه»([4]).
المثال الرابع: (من التفاسير التي يقع فيها الخطأ)
في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] اختلف السلف في قصة الآية التي أوردوها في سبب النزول مع اتفاقهم على أن البيوت هي البيوت المسكونة، وقد بين الطبري معنى الجملة من الآية، فقال: «فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه، وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا بر لله فيه، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مما لم أحرمه عليكم»([5]).
قد وردت تفسيرات لغيرهم تخالف سبب النزول أو سياق الآية، ومن ذلك:
1- فسَّرَ أبو عبيدةَ (ت:٢١٠) قولَ اللهِ تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: ١٨٩]، فقال: «أي اطلبوا البِرَّ منْ أهلِه ووجهِه، ولا تطلبوه عندَ الجهلةِ المشركينَ»([6]).
ويكون معنى الآية عنده: وليس البر بأن تسألوا الجهلة المشركين، ولكن البر أن تسألوا أهل التقوى.
وهذا القول مخالف لسبب النزول، وإن كان له وجه ضعيف جداً مأخوذ من السؤال عن الأهلة، فكأنهم طلبوا السؤال عن الأهلة من غير وجهه، فأُرشدوا إلى الطريقة الصحيحة في طلب السؤال.
وهذا الزعم لا دليل عليه من الخبر أو السياق.
ولو أُخذ هذا القول على وجه الاستدلال من جهة انتزاع هذا المقطع وتنزيله على ما يناسبه من جهة الاستدلال؛ لكان له وجهٌ، ويكون من باب المشابهة بين فعل هؤلاء الكفار، وفعل السائل الذي يسأل الجهال، لكن أبا عبيدة جاء به على سبيل التفسير لا الاستدلال، فصح تخطئته في ذلك.
2- وفسَّرَه بعضهم على «أنَّ البيوتَ كنايةٌ عنِ النِّسَاءِ، ويكونُ المعنى: وأتوا النِّسَاءَ منْ حيثُ أمرَكم اللهُ، والعربُ تُسَمِّي المرأةَ بيتاً، قالَ الشاعرُ:
مَا لِي إذَا أنْزِعُهَا صَأيتُ ... أكِبَرٌ غَيَّرَنِي أمْ بَيتُ
أراد بالبيتِ المرأةَ»([7]).
وهذا التفسير لا يتناسب مع سبب النزول ولا مع سياق الآية، وإذا سبكناه تفسيراً للآية سيظهر خلله، وأنه لا علاقة لا بالآية من قريب ولا من بعيد، فنقول: يسألونك عن شأن الأهلة فبين الله لهم أن من حكمتها أن تكون لتوقيت الناس في معاملاتهم وشرائعهم كالحج، "وليس البر بأن تأتوا النساء من أدبارهن ولكن البر من اتقى الله وأتى النساء في قُبُلِهِنّ" واتقوا الله لعلكم تفلحون.
فتأمل كيف صار هذا التفسير نشازاً لا علاقة له بموضوع الأهلة والحج، والذي قال به قال به على سبيل التفسير، ولو أردنا حمله على الاستدلال لوجدناه بعيداً غير منقاد لأي وجه من وجوه الدلالة، والله أعلم.
المثال الخامس:
في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)} [المطففين: ١-٤] قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يطففون، يعني: للذين ينقصون الناس، ويبخسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء؛ وأصل ذلك من الشيء الطفيف، وهو القليل النزر، والمطفف: المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن؛ ومنه قيل للقوم الذي يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع، يعني بذلك: كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل»([8])، ثم ذكر بعد ذلك الآثار.
وقد ورد عن سلمان الفارسي ما رواه عبدالرزاق وغيره: «الصلاة مكيال؛ من أوفى أُوفيَ به، ومن طفف فقد علمتم ما للمطففين»([9])، وليس في المطففين في القرآن إلا هذه الآيات التي يلقبها بعضهم بآيات التجار، وهذا يعني أن سلمان رضي الله عنه قد جعل علة الحكم الجامعة بين أمر الصلاة وأمر التجارة النقص من المقدار الواجب فمن نقص من صلاته فإنه معرض للعقوبة، وقد جاء عن عبد الله بن عنمة قال: رأيت عمار بن ياسر دخل المسجد فصلى، فأخف الصلاة، قال: فلما خرج قمت إليه، فقلت: يا أبا اليقظان لقد خففت قال: فهل رأيتني انتقصت من حدودها شيئا؟ قلت: لا، قال: فإني بادرت بها سهوة الشيطان. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها نصفها»([10])، ففي هذا الحديث إشارة إلى أنه يفقد من الأجر بمقدار ما فقد من صلاته.
ولما كانت الآيات في التطفيف في المكيال والميزان على الناس، وليس في نقص الصلاة ولا نقص أي من الأعمال= فإنه يظهر أن فعل سلمان استدلال وليس تفسيراً.
تطبيق على توسيع الدلالة:
في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: ٣]
قال الراغب الأصفهاني: «والظاهر - من إنفاق ما رزقه الله - المال، وذلك عام فيما يخرج من الزكاة المفروضة، ومن العطايا النافلة، بدلالة أن ذلك مدح منه.
والمدح قد يستحق بالفرض والنفل، وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه عنى " الصلوات المفروضة " والزكوات [المحدودة] فإنه، ذكر أوكد ما يستحق به المدح، إذ لا يعتد بالنفل ما لم يؤت بالفرض، لقوله عليه السلام: " إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة " وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في فِي امرأته ".
فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي من المال كما تقدم.
وأما بالنظر الخاصي: فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي أتانا الله - عز وجل - من النعم الباطنة والظاهرة، كالعلم والقوة والجاه والمال.
ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه " وبهذا النظر عد الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم من الجود حتى قال الشاعر:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وقال آخر:
بحر يجود بماله وبجاهه. . . والجود كل الجود بذل الجاه
وقال حكيم: الجود التام: بذل العلم.
فمتاع الدنيا عرض زائل ينقصه الإنفاق.
وإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض.
والعلم بالضد ٠ فهو باق دائم.
ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين، وإلى هذا ذهب بعض المحققين فقال: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: مما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون " فعلى هذا عام في كل ذلك»([11]).
والذي عبر عنه الراغب بالمعنى العامي هو التفسير؛ لأنه المناسب للسياق، إذ عادة القرآن أن يقرن بين الصلاة والزكاة التي هي إخراج المال، وعلى هذا جاء تفسير السلف حيث جعلوها في زكاة الأموال([12]).
وأما المعنى الخاصي فهو خروج باللفظ عن سياقه الذي سيق من أجله، وتعميم له بما يصلح أن ينطبق عليه دون النظر إلى السياق؛ إذ كل ما أعطاه الله للإنسان من مال وجاه وعلم وقوة يدخل فيما ينفق منه.
والسياق لم يأت لتقرير الإنفاق من هذه المنافع فاحتاج المستنبط إلى بيان الفرق بين ما سيق إليه الخطاب وهو النظر الخاصي، وما يمكن أن يحتمله الخطاب من الاستدلال وهو النظر العامي.
ومن خلال الأمثلة السابقة يتبين أن ما انسبك مع السياق فصار منتظماً فيه فإنه يصح أن يقال إنه تفسير بغض النظر عن كون هذا التفسير صواباً أو خطأً، وأن كل قول ربط بالجملة في الآية ولم ينسبك مع السياق فإنه ليس من باب التفسير، بغض النظر أيضاً عن صوابه أو خطئه، وإنما ينظر إلى تحديد نوع الارتباط بالآية.